-->

أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

 

دروس رمضان التي لا تنقضي: ضبط النفس طريق إلى التقوى



انتهى شهر رمضان، وانقضت أيامه ولياليه التي حملت إلينا نفحات من الإيمان، وصفاء الروح، وقربًا من الله لم نعهده في باقي شهور السنة. لكن، هل تنتهي مع رمضان بركة الصيام وأثر العبادة؟

كلا. فالمؤمن الحقّ هو من يجعل من رمضان مدرسة يتعلّم منها، ثم يطبق ما تعلّمه طوال العام، ليكون رمضان نقطة تحوّل حقيقية في حياته، لا مجرد طقسٍ موسمي.

 

من أهم ما يمكن أن يكتسبه الإنسان من هذا الشهر الكريم هو ضبط النفس، ولا سيما في حالتين مركزيتين تتكرّران في حياة كل شخص: عند الغضب، وعند مواجهة الشهوات.

 

أولًا: ضبط النفس عند الغضب


الغضب، كما يصفه أهل العلم، هو شعور داخليّ يشتعل في النفس، ويدفع صاحبه إلى فقدان السيطرة على أقواله وأفعاله.

في رمضان، حين يمسك المسلم عن الطعام والشراب وسائر المفسدات، فهو في الحقيقة يُدرّب نفسه على السيطرة والانضباط، ومن هنا تأتي قيمة الصيام في تربية النفس.

 

وقد وجّهنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهمية هذا الجانب تحديدًا، حين قال:

 

"إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم"

(رواه البخاري ومسلم)

هذا الحديث لا يطلب منا مجرد كتمان الغضب، بل يدعونا إلى الارتقاء بالنفس إلى درجة الوعي الذاتي والانضباط الأخلاقي.

فالصائم لا يرد الإساءة بمثلها، بل يتحكم في أعصابه، ويواجه الموقف بنضج وحكمة.

 

لكن لماذا كل هذا التأكيد على كبح الغضب؟


لأن الغضب باب من أبواب الشيطان، يدخل منه إلى النفس، فيشوّه علاقتنا بالله وبالناس، ويجعلنا نندم بعد فوات الأوان. كما أن الغضب قد يقود إلى الظلم، وإلى الكلمة الجارحة، وإلى القطيعة التي لا تُصلحها الاعتذارات.

وقد بيّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة من يتحكم في غضبه بقوله:

"ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"

(رواه البخاري ومسلم)

إذن، رمضان ليس فقط فرصة للامتناع عن الطعام، بل هو ورشة عملية لضبط النفس والانتصار على الغضب.

 


ثانيًا: ضبط النفس عن الشهوات

إن النفس بطبيعتها تميل إلى إشباع رغباتها الحسية والمعنوية. قد تكون هذه الرغبات مشروعة، ولكن الإفراط فيها أو الوقوع فيها خارج الإطار الصحيح يجعلها سببًا للانحراف والبعد عن الله.

 

في رمضان، يصوم الإنسان طواعيةً عن المباح، من أكل وشرب وجماع، بل ويمتنع عن كل ما يثير الغريزة أو يفتح باب الهوى، وهو بذلك يُعلّم نفسه فنّ السيطرة والارتقاء الروحي.

قال الله تعالى: 

"كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون"

(سورة البقرة: 183)

وهنا، نلاحظ أن الغاية الكبرى من الصيام ليست الجوع أو العطش، بل تحقيق التقوى.

والتقوى، في أحد وجوهها، هي القدرة على الوقوف في وجه النفس حين ترغب، وعلى أن تقول "لا" في وقتٍ كل الأصوات من حولك تقول "نعم".

 

في عصر تُسوّق فيه الشهوات بشكل مغرٍ في كل مكان، عبر الإعلانات، والأفلام، والتطبيقات، يصبح التمرين الرمضاني على ضبط الشهوات بمثابة درع روحي يحمي الإنسان من الانزلاق.

 

بل إنك إذا تأملت بعد نهاية رمضان، ستجد أن النفس قد أصبحت أهدأ، وأرقى، وأكثر قدرة على التحمل.

وذلك لأنك مارست ما يشبه "الرياضة الروحية" لمدة شهر، وقد حان الوقت لاستثمار هذه اللياقة الأخلاقية.

 

التقوى: ثمرة ضبط النفس

إذا كان رمضان مدرسة، فإن التقوى هي شهادة التخرج منها. والتقوى لا تتحقق إلا عبر كبح النفس والسيطرة على رغباتها وردود أفعالها.

 

يقول ابن القيم رحمه الله:

 

"مجاهدة النفس أربع مراتب: مجاهدتها على تعلم الهدى، والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على أذى الخلق فيه. فإذا تمّت هذه المراتب، صار من الربانيين."

وبالتالي، فإن من يريد أن يرتقي بنفسه إلى مصاف العابدين، عليه أن يبدأ من نقطة ضبط النفس، لا من الطقوس الظاهرة فقط.

 

ما بعد رمضان: هل نحتفظ بالدروس؟

قد يظن البعض أن ما يحدث في رمضان هو حالة مؤقتة، تنتهي بانتهاء الشهر، لكن الحقيقة أن المؤمن الصادق يأخذ من رمضان زادًا لعامٍ كامل.

 

لا بأس أن نخطئ بعد رمضان، فنحن بشر. لكن الأهم أن يبقى في داخلنا صوت يقول:

"لقد استطعت أن أتحكم في نفسي شهرًا كاملًا، فأنا قادر على الاستمرار."

هذا الإحساس بالقوة الداخلية هو أحد مكاسب رمضان الكبرى.

يمكنك مشاهدة هذا الفيديو التحفيزي الذي يعرض بشكل مؤثر كيف يساهم رمضان في تهذيب النفس وضبط الغضب والشهوات، ويُبرز أثر الصيام في بناء شخصية متزنة ومتقـية.


خاتمة: من هنا يبدأ التغيير

ضبط النفس ليس سلوكًا عابرًا، بل هو جوهر العبادة، وأساس التزكية، وسبيل النجاة في الدنيا والآخرة.

إذا كنت قد استطعت أن تمسك لسانك، وتمنع نفسك من الغضب، وأن تكبح شهوتك في رمضان، فاعلم أن باب التقوى قد فُتح لك، وعليك أن تواصل السير.

 

فما أجمل أن نحمل معنا من رمضان هذا النقاء والصفاء، وهذه الروح القوية، لترافقنا في سائر أيام السنة، فتكون حياتنا كلها رمضانًا ممتدًا، لا موسمًا عابرًا.

تعليقات